منظمات المجتمع المدني ليست شيئاً جديداً، فالدولة أصلاً من ناحية فلسفية عميقة، وفي معظم الحالات التاريخية، كانت منظمة مجتمع مدني كبيرة ومسيطرة، ومحصلة لتفاعل مئات وآلاف المؤسسات التي عملت على تطوير نمط إدارة عام وتشكيله في نظام معين.
https://www.fadaeyat.co/up/images/762...4240933029.jpg

يتضح ذلك- مثلا- في ايرلندا التي استقلت بوصفها هوية متمايزة عن المملكة المتحدة، واسكتلندا والنمسا ،أيضاً حيث حافظ أهلها على هويتهم ووجودهم الخاص عن الكيان الذي يضم الثقافة الألمانية بناء على التدابير التي أتخذها الآباء المؤسسون للنمسا، وحتى الولايات المتحدة الأمريكية في النهاية تبدو ثمرة عملاقة لتنظيمات مجتمع مدني عفوية تمثلت في حفلات الشاي التي أطلقت شرارة الاستقلال الأمريكي من مدينة بوسطن.
في العالم العربي، يبدو مصطلح «المجتمع المدني» جديداً بسبب تضخم وهيمنة الدولة في الستينيات والسبعينيات، والعلاقة الريعية التي ربطت المواطنين، فكانت نسبة التشغيل في الأجهزة الحكومية، والمدى الذي وصله تدخل الحكومة واحتكارها لجميع اتجاهات الحياة والأنشطة الاقتصادية، بما يشتمل على التعليم والخدمات الصحية والمواصلات، هذه البيئة لا تسمح- أصلاً- بوجود منظمات للمجتمع المدني، يستطيع من خلالها أن يعمل بموازاة الحكومة والأجهزة الرسمية وأن يعزز من الأداء الكلي لاي دولة .
ظهور منظمات المجتمع المدني أتى مرتبطاً بالمساعدات الغربية، تحت تسميات التنمية وتعزيز الحراك الاجتماعي، وكانت المنظمات تتحصل على دعم تقني ومادي من منظمات دولية متعددة ومن دول أخرى، وكأي مجال آخر.
..ورغم ذلك فإن العديد من التجارب السلبية ظهرت لتزاحم المنجزات والايجابيات، وأصبحت منظمات المجتمع المدني تمثل قلقاً للدول الحاضنة وللمؤسسات الممولة على السواء، وهو الأمر الذي أخذ يستدعي وضعها تحت الرقابة ، وهي رقابة يفترض أن تكون احترازية لا أن تمثل أصلاً عائقاً أمام المجتمع المدني ومنظماته، خاصة المنظمات التي تعمل في مجال التنمية وتتعامل مع مصادر المياه والطاقة مثلاً، والتخوف الأساسي أن يمثل التضييق بقوانين تنظيمية تحدد أعمال منظمات المجتمع المدني وتفرض السيطرة على أدواتها وتتداخل في مصادر التمويل والإدارة إلى إشكاليات عديدة،يمكن أن تجعل التمويل المخصص لمواضيع حيوية وقضايا عالمية يهرب من بلادنا إلى دول أخرى.
ويبدو للباحث والخبير ان توجه اي دولة لتعزيز الحكم المحلي؛ يتطلب تشجيع منظمات المجتمع المدني، ومحاولة وضع أطر لزيادة قدرتها على تحشيد التمويل المحلي، وفي حالة وجود دعم فني أو تمويل أجنبي فيجب أن يتم ذلك في إطار معقول وواضح، فالأصل في الأشياء أن الجهات الممولة، هي المعنية بمراقبة الإدارة الخاصة بالتمويل، وهي حصراً التي يمكن أن تحكم على كفاءة الجهات المتلقية للتمويل في الإدارة الرشيدة والبعيدة عن الفساد للأموال التي تستقبلها، بينما على الحكومة أن تراقب وبعناية أنشطة منظمات المجتمع المدني، لا على طريق الموافقة على كل نشاط، والتدخل في الخطط، ولكن في وضع خطوط عريضة لحدود العمل حسب تراخيص المنظمات بشكل عام، والرقابة على أي أنشطة تظهر بوضوح أنها خارج إطار وغايات المنظمات العاملة.
قضايا التمويل مسألة مهمة، وستبقى مسألة خلافية بصورة مقلقة، ومن الصعب القول بأنه يوجد تمويل متجرد من المعنى السياسي، وحتى التمويل للمهام الإنسانية في الكوارث الطبيعية يمكن أن يكون مدخلاً لإنهاء صراع سياسي، وتحاول بعض الدول أن تستغله ليكون أرضية للتوافق، ولكن لا يمكن تحت دعاوى التمويل أن يتم دفع منظمات المجتمع المدني للتفكك والبحث عن حلول أخرى.
هذه المنظمات يجب أن تنمو(...) ويجب أن تدرب كوادر على جانب من المهارة والمهنية لزيادة مصادر التمويل من الأنشطة العامة التي تقدمها، والتخلص جزئياً أو كلياً من التمويل الأجنبي، وربما بدأت بعض المنظمات العاملة في مجال البيئة تتبع ذلك النموذج وتطبقه من خلال تحالفها مع شركات أردنية.
في المجمل، فإن وجود إطار قانوني عصري ومتقدم لمنظمات المجتمع المدني يصبح متطلباً أساسياً، على أن يكون ذلك لغايات التنظيم تجاه الاستفادة القصوى من منظمات المجتمع المدني، والمطلوب هو الوعي بدورها وأهميته، وفوق ذلك، قناعة واعتراف بدورها، وواقعية وتوازن في الاعتراف بقصور الحكومات عن القيام بكافة وجميع الأدوار التي يتطلبها المجتمع والدولة، وعند تحقيق ذلك، فإن عملية فرز طبيعية ستظهر لتؤكد على الجانب الإيجابي وتؤدي إلى إسقاط الظواهر السلبية التي ارتبطت بمنظمات المجتمع المدني وجعلتها تحصل على سمعة غامضة.