الإبداع الفضائي

الإبداع الفضائي (https://www.fadaeyat.co/)
-   المواضيع الإسلامية (https://www.fadaeyat.co/f5/)
-   -   الصحة والفراغ (https://www.fadaeyat.co/fadaeyat5258/)

ابو نضال 12 ربيع الثاني 1430هـ / 7-04-2009م 00:13

الصحة والفراغ
 
نعيش في ظلال حديث يتحدث عن نعمتين غفل عنهما كثير من الناس؛ لنستخلص منه العبر والعظات التي تعيننا في حياتنا الدعوية والدنيوية، عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ" (فتح الباري 11/229/6412. تحفة الأحوذي 6/589/2405).



المفردات والمعاني

نعمتان: تثنية نعمة، وهي الحالة الحسنة، وقيل: هي المنفعة المفعولة على جهة الإحسان للغير.



الغبْن: بسكون الباء في البيع، وبفتحها في الرأي (لسان العرب- مادة: غبن)، وعلى هذا فيصح كل منهما في هذا الحديث؛ فإن مَن لا يستعملهما فيما ينبغي فقد غبن؛ لكونه باعهما ببخس، ولم يُحْمد رأيه في ذلك، وقال ابن الخازن: النعمة ما يتنعّم به الإنسان ويستلذه، والغبن أن يشتري بأضعاف الثمن أو يبيع بدون ثمن المثل، فمن صحَّ بدنه، وتفرغ من الأشغال العائقة، ولم يسْعَ لصلاح آخرته؛ فهو كالمغبون في البيع، والمقصود بيان أن غالب الناس لا ينتفعون بالصحة والفراغ، بل يصرفونهما في غير محالهما، فيصير كل واحد منهما في حقهم وبالاً عليهم، ولو أنهم صرفوا كل واحد منهما في محله لكان خيرًا لهم، أيّ خير (ابن ماجة: 1396/ 2).



وقوله: "كثير من الناس"؛ أي أن الذي يوفق لذلك قليل، وهو كقوله تعالى: ﴿وَقَلِيْلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُوْرُ﴾ (سبأ: من الآية 13) قال ابن بطال: معنى الحديث أن المرء لا يكون فارغًا حتى يكون مكفيًا صحيح البدن، فمن حصل له ذلك فليحرص على أن لا يُغبن بأن يترك شكر الله على ما أنعم به عليه، ومن شكره امتثال أوامره، واجتناب نواهيه، فمن فرَّط في ذلك فهو المغبون، وتمام ذلك أن الدنيا مزرعة الآخرة، وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة، فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط، ومَن استعملها في معصية الله فهو المغبون؛ لأن الفراغَ يعقبه الشغل، والصحة يعقبها السقم، ولو لم يكن إلا الهرم، كما قيل:

يَسُرُّ الفَتَى طُولُ السَّلامَةِ وَالبَقَا فَكَيْفَ تَرَى طولَ السَّلامَةِ يَفْعَلُ

يَرُدُّ الفَتَى بَعْدَ اعْتِدَالٍ وَصِحَّةٍ يَنُوءُ إِذَا رَامَ القِيَامَ وَيُحْمَلُ



وقال ابن الجوزي: قد يكون الإنسان صحيحًا ولا يكون متفرغًا؛ لشغله بالمعاش، وقد يكون مستغنيًا ولا يكون صحيحًا، فإذا اجتمعا فغلبَ عليه الكسلُ عن الطاعة فهو المغبون.



فمن استرسل مع نفسه الأمّارة بالسوء، الخالدة إلى الراحة، فترك المحافظة على الحدود، والمواظبة على الطاعة فقد غُبن، وكذلك إذا كان فارغًا؛ فإن المشغول قد يكون له معذرة بخلاف الفارغ، فإنه يرتفع عنه المعذرة وتقوم عليه الحجة (فتح الباري 11/230- 231).



الدروس والعبر

1- الرابح والخاسر حقًّا:

في بلاغةٍ وإيجازٍ ممن أُوتي جوامع الكلم- صلى الله عليه وسلم- يضرب لنا هذا المثل، الذي يمسّ شغاف القلوب التي تتطلع للفوز العظيم والربح الكبير حتى تسلك سبيل النجاة الحقيقي، فإن الرابح والفائز حقًّا من ربح الآخرة، والخاسر حقًّا مَن خسر الآخرة، قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ (الزمر: من الآية 15).



قال الطيبي: ضرب النبي- صلى الله عليه وسلم- للمكلف مثلاً بالتاجر الذي له رأس مال، فهو يبتغي الربح مع سلامةِ رأس المال، فطريقه في ذلك أن يتحرى في مَن يعامله، ويلزم الصدق والحذق؛ لئلا يُغبن، فالصحة والفراغ رأس المال، وينبغي له أن يعامل الله بالإيمان، ومجاهدة النفس وعدو الدين؛ ليربح خَيْرَي الدنيا والآخرة، وقريب منه قول الله تعالى: ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)﴾ (الصف)، وكذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (التوبة: 111).



كما أن على المسلم لكي يحقق هذا الفوز أن يجتنبَ مطاوعة النفس ومعاملة الشيطان لئلا يضيع رأس ماله مع الربح.



2- وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها:

إن الله تعالى أنعم على عباده بما لا يحصونه عدًّا، كما قال: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (النحل: من الآية 18)، وطلب منهم الشكر، ورضي به منهم، قال الله تعالى: ﴿وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (النحل: 78)، وقال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ﴾ (الملك: 23)، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ(8)﴾ (الانفطار)، وقال تعالى: ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)﴾ (البلد).



قال مجاهد: هذه نعم من الله متظاهرة يقررك بها كيما تشكر، وقرأ الفضيل ليلةً هذه الآية فبكى، فسُئل عن بكائه، فقال: هل بِتَّ ليلةً شاكرًا لله أن جعل لك عينين تبصر بهما؟ هل بِتَّ ليلة شاكرًا لله أن جعل لك لسانًا تنطق به؟ وجعل يُعدِّدُ من هذا الضرب (جامع العلوم والحكم 2/75).



3- نِعَمٌ منسيّة:

والإنسانُ كثيرًا ما ينشغلُ بالنِّعمِ المادية التي تحيطُ به من أموال وأولاد وجاه، ويغفلُ وينسى نِعَمًا عظيمةً يتمتعُ بها، ولا يفطن إليها إلا إذا فقدها أو تعطلت، وفي هذه الآثار ما يلفت إلى تلك النِّعم.. روى ابن أبي
الدنيا عن سلمان الفارسي، قال: إن رجلاً بُسِطَ له من الدنيا، فانتُزع ما في يديه، فجعل يحمدُ الله عزَّ وجل، ويثني عليه، حتى لم يكن له فراش إلا بوري (البوري: هو الحصير المنسوج) فجعلَ يحمدُ الله ويُثني عليه، وبُسِطَ للآخر من الدنيا، فقال لصاحب البوري: أرأيتك أنت على ما تحمدُ الله عز وجل؟ قال: أحمد الله على ما لو أُعطيت به ما أُعطي الخلق، لم أعطهم إياه، قال: وما ذاك؟ قال: أرأيت بصرك؟ أرأيت لسانك؟ أرأيت يديك؟ أرأيت رجليك؟ وقيل مكتوب في حكمة آل داود: العافية المُلْك الخفيّ (مرجع سابق).



وعن معاذ بن عبد الله بن خبيب، عن أبيه، عن عمه- رضي الله عنه- قال: كنا في مجلس، فطلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسه أثر ماء، فقلنا: يا رسول الله نراك طيب النفس. فقال: أجل، ثم خاض القوم في ذكر الغنى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا بأس بالغنى لمَن اتقى الله عز وجل، والصحة لمن اتقى الله خيرٌ من الغنى، وطيب النفس من النعم" ( مسند الإمام أحمد 5/381، 372. وابن ماجه 2/724/2141)، وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول ما يسأل عنه يوم القيامة- يعني من النعيم- أن يقال: ألم نصحّ لك جسمك، ونرويك من الماء البارد"؟ (تحفة الأحوذي 9/290/3416).



4- نعمة الإيمان أعظم النعم:

قال القاضي ابن العربي: اختلف في أول نعمة الله على العبد، فقيل: الإيمان، وقيل: الحياة، وقيل: الصحة، والأول أولى؛ فإنه نعمة مطلقة، وأما الحياة والصحة فإنهما نعمة دنيوية، ولا تكون نعمة حقيقية إلا إذا صاحبت الإيمان، وحينئذٍ يُغْبن فيهما كثيرٌ من الناس، أي يذهب ربحهم أو ينقص (فتح الباري 11/230 - 231).



إن الله عز وجل حين سخَّر لنا الكون بسمائه وأرضه وما فيهما، وحين أسبغ علينا نِعَمَهُ ظاهرةً وباطنة، والتي لا تُحْصَى ولا تُعَدّ، إنما يريد أن نسلم له، ففي سورة النحل التي تسمى سورة النِّعم، لكثرة ما أفاض فيها من بيان نِعَمَه على عباده، وبيّن سبب ذلك، يقول: ﴿كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ﴾ (النحل: من الآية 81).



ولذلك في نفس السورة ينعى على الجاحدين والمنكرين لنعمه في أكثر من موضع، فيقول تعالى: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)﴾ (النحل) ويقول تعالى: ﴿أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ﴾ (النحل الآية71)، ويقول تعالى: ﴿أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنْ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73)﴾ (النحل)، ويقول تعالى ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمْ الْكَافِرُونَ﴾ (النحل الآية/83).



5- الشكر بالعمل:

وإذا كانت نعم الله الدنيوية علينا كثيرة، وفي مقدمتها سلامة البدن والجوارح، فإن واجب المسلم أن يشكر الله بعملٍ صالحٍ يؤديه، أو معروف للناس يُسديه، فإذا عجز عن ذلك فليكفَّ شره وأذاه، وهذا ما أرشدنا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: " كل سُلامَى من الناس عليه صدقة، كل يوم تَطْلُعُ فيه الشمس: تعدلُ بين الاثنين صدقة، وتعينُ الرجل في دابته، فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة"(1)، وفي رواية عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإنسان ثلاث مائة وستون عظمًا، أو ستة وثلاثون سُلامَى، عليه في كل يوم صدقة " قالوا: فمن لم يجد؟ قال:"يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر" قالوا: فمن لم يستطع؟ قال:"يرفع عظمًا عن الطريق" قالوا: فمن لم يستطع؟ قال:"فليعن ضعيفًا "قالوا: فمن لم يستطع ذلك؟ قال: " فليدع الناس من شره" (فتح الباري / 2989، 2891، 2707ومسلم 1009)، ومعنى الحديث أن تركيب هذه العظام وسلامتها من أعظم نعم الله على عبده، فيحتاج كل عظم منها إلى صدقة يتصدق بها؛ ليكون ذلك شكرًا لهذه النعمة.



6- الصدقة في الصحة أفضل:

والصدقة في حال الصحة من الأعمال التي رغَّب فيها الرسول- صلى الله عليه وسلم-؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رجل للنبي- صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله، أي الصدقة أفضل؟ قال: "أن تصدّق وأنت صحيح حريص، تأملُ الغنى وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان" (2).



قوله: "وأنت صحيح حريص"؛ لأنه في حال الصحة يصعب عليه إخراج المال غالبًا؛ لما يخوفه به الشيطان، ويزين له من إمكان طول العمر والحاجة إلى المال، كما قال تعالى: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ﴾ (البقرة: الآية من 268)، وأيضًا فإن الشيطان ربما زين له الحيف في الوصية أو الرجوع عن الوصية، فيتمحض تفضيل الصدقة الناجزة.



قال بعض السلف عن بعض أهل الترف: يعصون الله في أموالهم مرتين: يبخلون بها وهي في أيديهم، يعني في الحياة، ويسرفون فيها إذا خرجت عن أيديهم، يعني بعد الموت (3).



7- والشكر بالقول:

وشكر الله بالعمل قد يُعْجز المسلم، بل هو يعجزه؛ لذلك عليه أن يستكمل الشكر بحمد الله، والثناء عليه.



قال سليمان التيمي: إن الله أنعم على العباد على قدره، وكلفهم الشكر على قدرهم حتى رضي منهم من الشكر بالاعتراف بقلوبهم بنعمه، وبالحمد بألسنتهم عليها، فعن عبد الله بن غنام، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"مَن قال حين يُصبح: اللهم ما أصبح بي من نعمةٍ أو بأحدٍ من خلقك، فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر، فقد أدَّى شكر ذلك اليوم، ومَن قالها حين يُمسي أدَّى شكر ليلته"(4).



8- نعمة الأمن والعافية:

ومن نعم الله على عباده نعمة الأمن في البيوت والأوطان، والتي إذا جمعت لإنسان مع نعمة الصحة فكأنما جُمعت له الدنيا كلها، فعن سلمة بن عبيد الله بن محصن الأنصاري، عن أبيه- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَن أصبح منكم معافى في جسده، آمنا في سربه (5) عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا "(6).



وقيل: "آمنًا في سربه" أي غير خائف في نفسه ولا في أهله ولا في عياله(7).



ومن رزقهم الله نعمة الأمن في أنفسهم وبيوتهم وأوطانهم فليحرصوا على إقامة شرعه في أنفسهم وبيوتهم وأوطانهم، وهم بذلك يزدادون أمنًا وإيمانًا، وهذا ما يرشدنا إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)﴾ (قريش). وقوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ (67)﴾ (العنكبوت).



9- الشكر واجب ومستحب:

وشكر الله على نعمه على درجتين:

إحداهما: الشكر الواجب، وهو أن يأتي بالواجبات، ويجتنب المحارم، فهذا لا بدَّ منه، ويكفي في شكر هذه النعم، ويؤيده ما في الحديث: "فإن لم يفعل فليمسك عن الشر" ولا يكون المسلم ممسكًا عن الشر إلا إذا قام بالفرائض، واجتنب المحارم، فإن أعظم الشر ترك الفرائض، ومن هنا قال بعض السلف: الشكر ترك المعاصي. وقال بعضهم: الشكر أن لا يُستعان بشيءٍ من النعم على معصية.



الأخرى: الشكر المستحب، وهو أن يعمل العبد بعد أداء الفرائض، واجتناب المحارم بنوافل الطاعات، وهذه درجة السابقين المقربين وهي التي أرشد إليها النبي- صلى الله عليه وسلم- فيما سبق من أحاديث، وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في الصلاة، ويقوم حتى تتفطر قدماه، فإذا قيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: " أفلا أكون عبدًا شكورًا؟ "(8).



10 - العمل في الصحة يُكتب في المرض:

والمسلم حين يحسن العمل وهو صحيح، فإن الله يجري عليه من الثواب والأجر حين تُسلب منه الصحة، ويبتلى بالمرض، فعن إبراهيم أبي إسماعيل السككي قال: سمعت أبا بردة، واصطحب هو ويزيد بن أبي كبشة في سفر فكان يزيد يصوم في السفر، فقال له أبو بردة- رضي الله عنه-: سمعتُ أبا موسى رضي الله عنه مرارًا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مرض العبد أو سافر كُتِبَ له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا"(9).



وعن أبي الأشعث الصنعاني أنه راح إلى مسجد دمشق وهجر بالرواح فلقي شداد بن أوس والصنابحي معه، فقلت: أين تريدان يرحمكما الله؟ قالا: نريد ههنا إلى أخٍ لنا مريض نعوده فانطلقت معهما حتى دخلا على ذلك الرجل فقالا له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت بنعمة. فقال له شداد: أبشر بكفارات السيئات، وحط الخطايا، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله عز وجل يقول: إني إذا ابتليت عبدًا من عبادي مؤمنًا فحمدني على ما ابتليته، فإنه يقوم من مضجعه ذلك كيوم ولدته أمه من الخطايا، ويقول الرب عزَّ وجل: أنا قيدت عبدي، ابتليته، وأجروا له كما كنتم تجرون له وهو صحيح"(10).



وعن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أحد من المسلمين يبتلى ببلاء في جسده إلا أمر الله عز وجل الحفظة الذين يحفظونه اكتبوا لعبدي مثل ما كان يعمل وهو صحيح ما دام محبوسًا في وثاقي"(11).



ألا يدفع هذا الفضل من الله بالمسلم أن يغتنم أوقات الصحة في الطاعة والعبادة، حتى إذا ما تبدَّل الحال، تضاعفَ رصيده، وملئت صحائفُ أعماله بالحسنات، ومُحِيت عنه السيئات.



11- نعمة الفراغ:

من النعم التي يغفل كثير من الناس عنها، ويجهلون قدرها، ولا يقومون بحقِّ شكرها، نعمة الفراغ، ويقصد بالفراغ الخلو من المشاغل والمعوقات الدنيوية، المانعة للمرء من حيث الاشتغال بالأمور الأخروية، يقول بعض الصالحين: فراغ الوقت من الأشغال نعمة عظيمة، فإذا كفر العبد هذه النعمة بأن فتح على نفسه باب الهوى، وانجرَّ في قياد الشهوات، شوش الله عليه قلبه، وسلبه ما كان يجده من صفاء قلبه.



ويقول صاحب الحكم: الخذلان كل الخذلان أن تتفرغ من الشواغل ثم لا تتوجه إليه، وتقل عوائقك ثم لا ترحل إليه، يعني المولى جل جلاله.



ويشتد خطر الفراغ إذا اجتمع مع الفراغ الشباب الذي يتميز بقوة الغريزة، والجدة: أي القدرة المالية التي تُمكِّن الإنسان من تحصيل ما يشتهي، وفي هذا يقول أبو العتاهية في أرجوزته:

إنَّ الشبابَ والفراغَ والجِدَة (12) مفسدةٌ للمرءِ أيُ مفسدة!



ويقول آخر:

لقد هاجَ الفراغُ عليه شغلاً وأسبابُ البلاءِ من الفراغِ



ويعني بالشغل الذي هاجه الفراغ عليه: شغلَ القلب وتعلقَه بالشهوات وأحلامِ اليقظة، مما لا يثمرُ إلا سوء العواقب في الآخرة والأولى(13).



12 - قاتلو الفراغ في الباطل يقتلون أنفسهم:

في ظلِّ المدنية الحاضرة، وتعدد الشهوات، وكثرة المغريات من وسائل اللهو والباطل، فإن السواد الأعظم من الشباب المسلم، ينغمس في الضياع، ويتنادون فيما بينهم: هلم لنقتل الوقت، وما درى هؤلاء أن الوقت هو الحياة، وأن من يقتل وقته فإنما يقتل نفسه.



إن المسلم الصادق الإيمان لا يصح أن يرى إلا على حالين:

- أن يكون ساعيًا على معاش.

- أو يتزود لمعاد.



وهو حين يضرب في الأرض ليبتغي من فضل الله إنما يريد أن يكون عونًا له على طلب الآخرة، تحقيقًا لقوله تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)﴾ (القصص).



واغتنام الفراغ قبل الشغل، والصحة قبل المرض، من خصائص المسلم امتثالاً لقول الرسول- صلى الله عليه وسلم-، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل وهو يعظه: "اغتنم خمسًا قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك" (14).



وعن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- قال: أخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بمنكبي فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل". وكان ابن عمر يقول: "إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك" (15).



قال الطيبي: شبه الناسك السالك بالغريب الذي ليس له مسكن يأويه، ولا مسكن يسكنه، ثم ترقى وأضرب عنه إلى عابر السبيل؛ لأن الغريب قد يسكن في بلد الغربة بخلاف عابر السبيل القاصد لبلد شاسع وبينهما أودية مردية ومفاوز مهلكة، وقُطّاع طريق، فإن من شأنه ألا يقيم لحظة ولا يسكن لمحة.



وقال النووي: معنى الحديث لا تركن إلى الدنيا، ولا تتخذها وطنًا، ولا تحدث نفسك بالبقاءِ فيها، ولا تتعلق منها بما لا يتعلق به الغريب في غير وطنه (16).


الساعة الآن » 12:14.

Powered by vBulletin
.Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd